فصل: الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثانية فيما انطوت عليه الخلافة من الممالك في القديم وما كانت عليه من الترتيب وما هي عليه الآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثانية فيما انطوت عليه الخلافة من الممالك في القديم وما كانت عليه من الترتيب وما هي عليه الآن:

أما ما انطوت عليه من الممالك، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فتح مكة وما حول المدينة من القرى كخيبر ونحوها.
وفتح خالد بصرى من الشام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهي أول فتح فتح بالشام، ثم كانت الفتوح كثيرة في خلافة عمر رضي الله عنه، ففتح بلاد الشام، وكور دجلة والأبلة، وكور الأهواز، وإصطخر، وأصبهخان، والسوس، وأذربيجان، والري، وجرجان، وقزوين، وزنجان، وبعض أعمال خراسان، وكذلك فتحت مصر، وبرقة، وطرابلس الغرب.
ثم فتح في خلافة عثمان رضي الله عنه: كرمان، وسجستان، ونيسأبور، وفارس، وطبرستان، وهراة، وبقية أعمال خراسان. وفتحت أرمينية، وحران، وكذلك فتحت أفريقية، والأندلس، وسد الإسلام ما بين المشرق والمغرب، وكذلك الأموال تجبى من هذه الأقطار النائية والأمصار الشاسعة، فتحمل إلى الخليفة، وتوضع في بيت المال بعد تكفية الجيوش وما يجب صرفه من بيت المال. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أثناء خلافة بني العباس، ما عدا الأندلس فإن بقايا خلفاء بني أمية استولوا عليه حتى يقال: إن الرشيد كان يستلقي على ظهره وينظر إلى السحابة مارة يقول: اذهبي إلى حيث شئت يأتيني خراجك، ثم اضطرب أمر الخلافة بعد ذلك وتقاصر شأنها واستبد أكثر أهل الأعمال بعمله من خلافة الراضي على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب الخلافة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما ترتيب الخلافة، فله حالتان:
الحالة الأولى ما كان عليه الحال في الزمن القديم حال الخلافة في الزمن القديم اعلم أن الخلافة لابتداء الأمر كانت جارية على ما ألف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: من خشونة العيش، والقرب من الناس، واطراح الخيلاء، وأحوال الملوك، مع ما فتح الله تعالى على خلفاء السلف من الأقاليم، وجبى إليهم من الأموال التي لم يفز عظماء الملوك بجزء من أجزائها. وناهيك أنهم فتحوا عدةً من الممالك العظيمة التي كانت يضرب بها المثل في عظم قدرها، وارتفاع شأن ملوكها، من ممالك المشرق والمغرب، حتى ذكر عظماء الملوك عند بعض السلف فقال: إنما الملك الذي يأكل الشعير ويعس على رجليه بالليل ماشياً وقد فتحت له مشارق الأرض ومغاربها، يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن سلم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية؛ وإلى ذلك الأشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنةً ثم ملكٌ بعد ذلك» فكان آخر الثلاثين خلافة الحسن.
فلما سلم الحسن رضي الله عنه لمعاوية بعد وقوع الأختلاف وتباين الأراء، اقتضى الحال في زمانه إقامة شعار الملك، وإظهار أبهة الخلافة، فأخذ في ترتيب أمور الخلافة على نظام الملك لما في ذلك من إرهاب العدو وإخافته. بل كان ذلك شأنه وهو أمير بالشام قبل أن يلي الخلافة، حتى حكى صاحب العقد وغيره أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم الشام في خلافته، وهو راكب على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية أميرٌ على الشام، فخرج معاوية لملاقاته في موكب عظيم، فلقيه في طريقه في خف من القوم فلم يشعر به وتعداه طالباً له، ثم عرف ذلك فيما بعد، فرجع وسلم على أمير المؤمنين عمر، ومشى إلى جانبه، فلم يلتفت إليه وطال به ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فالتفت إليه حينئذ، وقال: أنت صاحب الموكب الآن مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟- فقال: يا أمير المؤمنين، إنا بأرضٍ يكثر فيها جواسيس العدو فأحتاج أن أظهر لهم من أبهة الملك والسلطان ما يزعهم، فإن أمرتني به، ائتمرت، وإن نهيتني عنه انتهيت- فقال: إن كان ما قلته حقاً، فإنه لرأي أديبٍ، وإن كان غير حق، فإنه لخدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك- فقال عبد الرحمن: لحسنٌ يا أمير المؤمنين، ما صدر به هذا الفتى عما أوردته عنه فيه- فقال: لحسن مصادره موارده جشمناه ما جشمناه.
فلما صارت الخلافة إليه، زاد في حسن الترتيب وإظهار الأبهة، وأخذ الخلفاء بعده في مضاعفة ذلك والأحتفال به حتى أمست الخلافة في أغي ما يكون من ترتيب الملك، وفاقت في ذلك الأكاسرة والقياصرة، بل اضمحل في جانب الخلافة سائر الممالك العظام، وانطوى في ضمنها ممالك المشارق والمغارب، خصوصاً في أوائل الدولة العباسية في زمن الرشيد ومن والأه.
حتى يحكى أن صاحب عمورية من ملوك الروم كانت عنده شريفةٌ مأسورة في خلافة المعتصم فعذبها، فصاحت وامعتصماه! فقال لها: لا يأتي المعتصم لخلاصك إلى على أبلق. فبلغ ذلك المعتصم، فنادى في عسكره بركوب الخيل البلق، وخرج في مقدمة عسكره أربعة الأف أبلق، وأتى عمورية فحاصرها وخلص الشريفة، وقال: اشهدي لي عند جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك، وفي مقدمة عسكري أربعة الأف أبلق.
وقد حكى ابن الأثير في تاريخه: أنه لما وصلت رسل ملك الروم إلى بغداد في سنة خمس وثلثمائة في خلافة المقتدر، رتب من العسكر في دار الخلافة مائة وستون ألفاً ما بين راكب وراجل، ووقف بين يدي الخليفة سبعمائة حاجب، وسبعة الأف خادم خصي: أربعة الأف بيض وثلاثة الأف سود، ووقف الغلمان المجرية الذين هم بمثابة مماليك الطباق الآن بالباب، بتمام الزينة والمناطق المحلاة، وزينت دار الخلافة بأنواع الأسلحة، وغرائب الزينة، وغشيت جدرانها بالستور، وفرشت أرضها بالبسط، وكان عدة البسط اثنين وعشرين ألف بساط، وعدة الستور المعلقة ثمانيةً وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألف ستر من الديباج المذهب، وكان من جملة الزينة شجرة من الذهب والفضة بأغصانها وأوارقها، وطيور الذهب على أغصانها، وأغصانها تتمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفر بحركات مرتبة، وألقبيت المراكب والدبادب في دجلة بأحسن زينة. وكان هناك مائة سبع مع مائة سباع، إلى غير ذلك من الأحوال الملوكية التي يطول شرحها.
هذا مع تقهقر الخلافة وانحطاط رتبتها يومئذ. ولم تزل الخلافة قائمةً على ترتيبٍ واحد في النفقة والجرايات والمطابخ وإقامة العساكر إلى آخر أيام الراضي بالله.
فلما ولي المتقي بالله، تقاصر أمر الخلافة وتناقص، وقنع الخلفاء من الخلافة بالدعاء على المنابر وضرب اسمهم على الدنانير والدراهم، وربما خطب الواحد منهم بنفسه، ومع ذلك كان الخليفة هو الذي يولي أرباب الوظائف من القضاة وغيرهم، وتكتب عنه العهود والتقاليد وغيرها لا يشاركه في ذلك سلطان.
وأما شعار الخلافة: فمنها الخاتم: والأصل فيه ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إن الملوك لا يقرأون كتاباً غير مختوم فاتخذ خاتماً من ورقٍ، وجعل نقشه محمدٌ رسول الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبسه أبو بكر بعده ثم لبسه عمر بعد أبي بكر، ثم لبسه عثمان بعد عمر، فوقع منه في بئر فلم يقدر عليه.
واتخذ الخلفاء بعد ذلك خواتيم، لكل خاتم نقشٌ يخصه، وبقي الأمر على ذلك إلى انقراض الخلافة من بغداد.
ومنها البردة وهي بردة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان الخليفة يلبسها في المواكب.
قال ابن الأثير: وهي شملةٌ مخططةٌ، وقيل كساء أسود مربع فيه صغرٌ؛ وقد اختلف في وصولها إلى الخلفاء.
فحكى الماوردي في الأحكام السلطانية عن أبان بن تغلب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وهبها لكعب بن زهيرٍ حين امتدحه بقصيدته التي أولها: بانت سعاد فاشتراها منه معاوية. والذي ذكره غيره أن كعباً لم يسمح ببيعها لمعاوية، وقال: لم أكن لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. فلما مات كعب اشتراها معاوية من ورثته بعشرة الأف درهم.
وحكى الماوردي أيضاً عن حمزة بن ربيعة أن هذه البردة كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها لأهل أيلة أماناً لهم، فأخذها منهم عبد الله بن خالد بن أبي أوفى وهو عامل من قبل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وبعث بها إليه، وكانت في خزانته حتى أخذت بعد قتله. وقيل اشتراها أبو العباس السفاح، أول خلفاء بني العباس بثلثمائة دينار.
ومنها القضيب: وهو عود كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذه بيده.
قال الماوردي: وهو من تركة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي صدقة.
قلت: وكان القضيب والبردة المتقدما الذكر عند خلفاء بني العباس ببغداد إلى أن انتزعهما السلطان سنجر السلجوقي من المسترشد بالله، ثم أعادهما إلى المقتفي عند ولايته في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. والذي يظهر أنها بقيت عندهم إلى انقضاء الخلافة من بغداد سنة ست وخمسين وستمائة فإن مقدار ما بينهما مائةٌ وإحدى وعشرون سنة، وهي مدة قريبة بالنسبة إلى ما تقدم من مدتهما.
ومنها ثياب الخلافة: وقد ذكر السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه في الكلام على ترجمة الملك السعيد إسماعيل أحد ملوك بني أيوب باليمن أنه كان به هودجٌ فادعى أنه من بني أمية ولبس ثياب الخلافة، ثم قال: وكان طول الكم يومئذ عشرين شبراً، فيحتمل أنه أراد زمن بني أمية، وأنه أراد زمن بني أيوب.
ومنها اللون في الأعلام والخلع ونحوها.
وكان شعار بني أمية من الألوان الخضرة، فقد حكى صاحب حماة عن الملك السعيد إسماعيل المتقدم ذكره: أنه حين ادعى الخلافة وأنه من بني أمية لبس الخضرة؛ وهذا صريح في أنه شعارهم.
أما بنو العباس فشعارهم السواد؛ وقد اختلف في سبب اختيارهم السواد فذكر القاضي الماوردي في كتابه الحاوي الكبير في الفقه: أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنينٍ ويوم الفتح عقد لعمه العباس رضي الله عنه رايةً سوداء.
وحكى أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: أن سبب ذلك أن مروان ابن محمد آخر خلفاء بني أمية حين أراد قتل إبراهيم بن محمد العباسي أول القائمين من بني العباس بطلب الخلافة قال لشيعته: لا يهولنكم قتلي، فإذا تمكنتم من أمركم فاستخلفوا عليكم أبا العباس يعني السفاح؛ فلما قتله مروان، لبس شيعته عليه السواد، فلزمهم ذلك وصار شعاراً لهم.
ومن غريب ما وقع مما يتعلق بذلك ما حكاه ابن سعيد في المغرب أن الظافر الفاطمي أحد خلفاء مصر لما قتله وزيره عباس، بعث نساء الخليفة شعورهن طي الكتب إلى الصالح طلائع بن رزيك، وهو يومئذ والٍ بمنية بني خصيبٍ، فحضر إليهم وقد رفع تلك الشعور على الرماح، وأقام الرايات السود إظهاراً للحرب على الظافر، ودخل القاهرة على ذلك، فكان ذلك في الفأل العجيب، وهو أن مصر انتقلت إلى بني العباس بعد خمسة عشر سنة، ورفعت راياتهم السود بها.
وأما تولية الملوك من الخلفاء، فكان الحال فيه مختلفاً رباعتبار السلطان بحضرة الخلافة وغيره، فإن كان الذي يوليه الخليفة هو السلطان الذي بحضرة الخلافة، كبني بويه وبني سلجوق وغيرهم، فقد حكى ابن الأثير وغيره أن السلطان طغرلبك بن ميكائيل السلجوقي لما تقلد السلطنة القائم بأمر الله في سنة تسع وأربعين وأربعمائة، جلس له الخليفة على كرسي ارتفاعه عن الأرض نحو سبعة أذرعٍ، وعليه البردة، ودخل عليه طغرلبك في جماعةٍ، وأعيان بغداد حاضرون، فقبل طغرلبك الأرض ويد الخليفة، ثم جلس على كرسي نصب له، ثم قال رئيس الرؤساء وزير الخليفة عن لسان الخليفة: إن أمير المؤمنين قد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، ورد إليك أمر عباده، فاتق الله فيما ولاك، واعرف نعمته عليك، ثم خلع على طغرلبك سبع جبات سود بزيق واحد، وعمامة سوداء، وطوق بطوق من ذهب، وسور بسوارين من ذهب وأعطى سيفاً بغلاف من ذهب، ولقبه الخلفية، وقريء عهده عليه فقبل الأرض ويد الخليفة ثانياً وانصرف، وقد جهز له فرس من إصطبلات الخليفة بمركبٍ من ذهب مقندس فركب وانصرف إلى داره، وبعث إلى الخليفة خمسين ألف دينار، وخمسين مملوكاً من الترك بخيولهم وسلاحهم مع ثياب وغيرها. ولعل هذا كله كان ترتيبهم في لبس جميع ملوك الحضرة.
وإن كان الذي يوليه الخليفة من ملوك النواحي البعيدة عن حضرة الخليفة كملوك مصر إذ ذاك ونحوهم، جهز له التشريف من بغداد صحبة رسول من جهة الخليفة، وهو جبّة أطلس أسود بطراز مذهبٍ وطوق من ذهب يجعل في عنقه، وسواران من ذهب يجعلان في يده، وسيفٌ قرابه ملبّس بالذهب، وفرس بمركب من ذهب، وعلمٌ أسود مكتوب عليه بالبياض اسم الخليفة ينشر على رأسه، كما كان يبعث إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم أخيه العادل. فإذا وصل ذلك إلى سلطان تلك الناحية، لبس الخلعة والعمامة، وتقلد السيف وركب الفرس وسار في موكبه حتى يصل إلى محل ملكه. وربما جهز مع خلعة السلطان خلعٌ أخرى لولده أو وزيره أو أحدٍ من أقاربه بحسب ما يقتضيه الحال حينئذ.
وآخر من وصلت إليه الخلعة والطوق والتقليد من ملوك بني أيوب من بغداد الناصر يوسف بن العزيز بن السلطان صلاح الدين عن المستعصم في سنة خمس وخمسين وستمائة.
وأما الوظائف المعتبرة عندهم، فعلى ضربين:
الضرب الأوّل وظائف أرباب السيوف؛ وهي عدّة وظائف منها الوزارة في بعض الأوقات دون بعض.
وقد ذكر القضاعيّ وغيره أن أوّل من لقّب بالوزارة في الإسلام، أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال وزير أبي العبّاس السّفّاح أوّل خلفاء بني العبّاس، ولم يكن ذلك قبله، ثم جرى الأمر على ذلك في اتخاذ الخلفاء الوزراء إلى انقراض الخلافة ببغداد بقتل التتار المستعصم في سنة ست وخمسين وستمائة، ووزيره يومئذ مؤيد الدين بن العلقميّ، وقتله هولاكو ملك التتار بعد قتل المستعصم لممالأته على المستعصم مع التتار، وهو آخر وزراء الخلافة ببغداد.
ومنها الحجابة: وكان موضوعها عندهم حفظ باب الخليفة والأستئذان للداخلين عليه، لا التّصدي للحكم في المظالم كما هو الآن.
وقد ذكر القضاعيّ في تاريخ الخلائف ما يقتضي أن الخلفاء لم تزل تتخذ الحجّاب من لدن الصّدّيق رضي الله عنه فمن بعده، خلا الحسن بن عليّ فإنه لم يكن له حاجب.
ومنها ولاية المظالم: وموضوعها قود المتظالمين إلى التناصف بالرّهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، كما قاله الماورديّ في الأحكام السلطانية وهي شبيهة بالحجوبية الآن في هذا المعنى؛ وكانت عندهم من أعلى الوظائف وأرفعها رتبة لا يتولاّها إلا ذوو الأقدار الجليلة، والأخطار الحفيلة.
ومنها النّقابة على ذوي الأنساب: كالطالبيين والعباسيين ومن في معناهم، كما في نقابة الأشراف الآن بالديار المصرية وأعمالها؛ وكانت لديهم من وظائف أرباب السيوف، ولذلك استصحب هذا المعنى في نقيب الأشراف الآن، فيكتب في ألقابه الأميريّ، وإن كان من أرباب الأقلام على ما سيأتي ذلك في كتابة توقيعه إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني وظائف أرباب الأقلام، وهي نوعان: دينية وديوانية فأما الديوانية- فأجلّها الوزارة إذا كان الوزير صاحب قلم. وقد مرّ القول في ابتداء وزارة الخلفاء وانتهائها في الكلام على وزارة أرباب السيوف في الضرب الأوّل.
وأما الدينية- فمنها القضاء وكانت ولاية القضاء عن الخليفة تارةً تكون عامّة لبغداد وأعمالها، وتارة قاصرةً على بغداد أو أحد جانبيها.
ومنها الحسبة وأمرها معروف.
ومنها ولاية الأوقاف والنظر عليها.
ومنها الولاية على المساجد والنظر في أمر الصلاة.
ومن الوظائف الخارجة عن حضرة الخلافة لأرباب السيوف الأمارة على الجهاد، والأمارة على الحج وغيرها.
ومن الوظائف الخارجة عن الحضرة لأرباب الأقلام ولاية قضاء النواحي، والحسبة بها إلى غير ذلك من ولايات زعماء الذمة وغيرهم.
الحالة الثانية ما صار إليه الأمر بعد انتقال الخلافة إلى الديار المصرية انتقال الخلافة إلى الديار المصرية عند استيلاء التتار على بغداد لما بايع الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ في سنة تسع وخمسين وستمائة المستنصر بن الظاهر أوّل الخلفاء بمصر على ما تقدم ذكره وكتب له عهد عنه بالسلطنة من إنشاء القاضي محي الدين بن عبد الظاهر، وعمل له السلطان الدّهاليز والأت الخلافة ورتب له الجمدارية، واستخدم له عسكراً عظيماً وجهزه إلى بغداد للاستيلاء عليها فقتله التتار على ما تقدم.
ثم لما بايع الظاهر أيضاً الأمام الحاكم بأمر الله ثاني خلفائهم أيضاً في سنة تسع وخمسين وستمائة على ما تقدم ذكره، بقي مدة، ثم أشركه معه في الدعاء في الخطبة على المنابر في سنة ست وستين وستمائة، إلا أنه منعه من التصرف والدخول والخروج.
ولم يزل كذلك إلى أن ولي السلطنة الملك الأشرف خليل ابن المنصور قلاوون فأطلق سبيله، وأسكنه في الكبش على القرب من الجامع الطولوني؛ وكان يخطب أيام الجمع بجامع القلعة إلى أن ولي السلطنة الملك المنصور حسام الدين لاجين، فأباح له التصرف والركوب إلى حيث شاء؛ وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الخلافة المستعصم بالله أبو العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان المرة الثانية بعد موت الملك الناصر محمد بن قلاوون، ففوض إليه السلطان نظر المشهد النفيسي واستقر بأيدي الخلفاء إلى الآن.
والذي استقر عليه حال الخلفاء بالديار المصرية أن الخليفة يفوض الأمور العامة إلى السلطان، ويكتب له عنه عهدٌ بالسلطنة ويدعى له قبل السلطان على المنابر إلا في مصلى السلطان خاصة في جامع مصلاه بقلعة الجبل المحروسة ويستبد السلطان بما عدا ذلك: من الولاية والعزل وإقطاع الأقطاعات حتى للخليفة نفسه، ويستأثر بالكتابة في جميع ذلك.
قلت: ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن قبض على السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالشام في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة على ما تقدم ذكره، فاستقل الأمام المستعين بالله خليفة العصر بأمر الخلافة: من الكتابة على العهود ومناشير الأقطاعات، والتقاليد، والتواقيع، والمكاتبات وغيرها، وأفرد بالدعاء على المنابر، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم والطرز على ما تقدم ذكره في الكلام على ترتيب الخلفاء، وهيئته في لبسه عند ركوبه المدينة في المواكب أو غيرها.
فعمامته مدورة لطيفة عليها رفرفٌ من خلفه تقدير نصف ذراع في ثلث ذراع مرسل من أعلى عمامته إلى أسفلها، وفوق ثيابه كامليةٌ ضيقة الكم مفرجة الذيل من خلف وتحتها قباء ضيق الكم.
أما تقليده السلطان السلطنة، فالذي رأيته في بعض التواريخ في عهد الأمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن أبي الربيع سليمان، إلى السلطان الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد مبايعة الحاكم المذكور عند موت أبيه في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة: أنه طلع القضاة والأمراء إلى القلعة واجتمعوا بدار العدل، وجلس الخليفة على الدرجة الثالثة من التخت، وعليه خلعةٌ خضراء، وعلى رأسه طرحة سوداء مرقومة بالبياض، وخرج السلطان من القصر إلى الأيوان من باب السر على العادة، فقام له الخليفة والقضاة والأمراء، وجاء السلطان فجلس على الدرجة الأولى من التخت دون الخليفة، ثم قام الخليفة فقرأ: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى آخر الآية، وأوصى السلطان بالرفق بالرعية، وإقامة الحق، وإظهار شعائر الإسلام ونصرة الدين؛ ثم قال: فوضت إليك جميع أمر المسلمين، وقلدتك ما تقلدته من أمو ر الدين.
ثم قرأ: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} إلى آخر الآية، ثم أتى الخليفة بخلعةٍ سوداء وعمامة سوداء مرقومة الطرف بالبياض، فألبسها السلطان وقلده سيفه، ثم أتي بالعهد المكتوب عن الخليفة للسلطان فقرأه القاضي علاء الدين بن فضل الله كاتب السر إلى آخره، فلما فرغ من قراءته، تنأوله الخليفة فكتب عليه ما صورته فوضت إليه ذلك- وكتب- أحمد بن عم محمد صلى الله عليه وسلم- وكتب القضاة الأربعة شهادتهم بالتولية، ثم أتي بالسماط على العادة.
وأخبرني من حضر تقليد السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق عن الأمام المتوكل على الله أبي الفتح محمد المشار إليه فيما تقدم: أنه حضر الخليفة وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، والقضاة الأربعة وأهل العلم، وأمراء الدولة إلى مقعد بالأصطبلات السلطانية يعرف بالحراقة، وجلس الخليفة في صدر المكان على مقعد مفروش له، ثم أتى السلطان وهو يومئذ حدثٌ، فجلس بين يديه، وسأله شيخ الإسلام عن بلوغه الحلم فأجاب بالبلوغ، فخطب الخليفة خطبة، ثم خاطب السلطان بتفويض الأمر إليه على نحو ما تقدم ذكره، ثم أتي الخليفة بخلعةٍ سوداء وعمامة سوداء موقومة فوقها طرحة سوداء مرقومة، ثم جلس الخليفة في مكانه الذي كان جالساً فيه، ونصب للسلطان كرسيٌ إلى جانب مقعد الخليفة فجلس عليه، وجلس الأمراء والقضاة حوله على قدر منازلهم، وقد استقرت جائزة تقليد السلطنة للخليفة ألف دينار مع قماش سكندري.
أما حضوره بمجلس السلطان في عامة الأيام، عند حضوره إلى السلطان لسلام أو مهم أو غير ذلك، فقد أخبرني بعض جماعة الخليفة أن الأمام المتوكل المتقدم ذكره كان إذا حضر إلى مجلس السلطان الظاهر، قام له، وربما مشى إليه خطوات وجلس على طرف المقعد وأجلس الخليفة إلى جانبه.